Ads 468x60px

عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله جاعل المرء بأصغريه؛ قلبه ولسانه، والمتكلم بأجمليه؛ فصاحته وبيانه، راقم حقائِقِ المعاني بأقلام الإلهام على صفحات الأفكار، جامع اللسان والقلم على ترجمة ما في الضمائر، ذاك للأسماع، وهذا للأبصار.
وأشهد أن لا إله إلا اللهّ وحده لا شريك له شهادة يُوَقع لصاحبها بالنجاة من النار، ويكْتَب قائلها في ديوان الأبرار، وأن محمداً عبده ورسوله الذي اهتزت لهيبته الأسِرَّهَ، وشَرُفت بذكره المنابر، وضاقت عن دَرْك وصفه الطروس، ونَفِدت دون إحصاء فضله المحابر، صلى اللّه عليه وعلى آله وصحبه الذين قُلِّدوا أمورَ الدين فقاموا بواجبها، وحُمِّلوا أعباءَ الشريعة فانتشرت بهم في مشارق الأرض ومغاربها، صلاةً تُسَطَّر في الصحف، وتفوق بهجتُها الروضَ الأًنُف، أما بعد:
فإن الله - تبارك وتعالى - وعد عباده المؤمنين مغفرته في كتابه المبين، وعلى لسان رسوله الصادق الأمين فقال - سبحانه وتعالى -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}1، وقال - تعالى -: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}2، والآيات في ذلك كثيرة.
 
وبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بالمغفرة في أحاديث كثيرة منها قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - عز وجل -: ((قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً))3.
وقد روى عن سيد الأولين والآخرين - صلى الله عليه وسلم - أحاديث في الحث على أقوال، وأفعال، وأحوال رتب المغفرة على قولها، أو فعلها، ووعد النجاة من النار، والعتق منها.
والله - تعالى - رحيم بعباده، يفرح بتوبة عبده إذا تاب ((اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ))4، ولهذا فإنه - تعالى - يكثر لعباده من فرص التوبة والإنابة، والرجوع إليه، ويجعل لهم مواسم للطاعات يستكثرون فيها من العمل الصالح، ويتنافسون فيها فيما يقربهم إلى ربهم، والسعيد من اغتنم تلك المواسم، ولم يجعلها تمر عليه مروراً عابراً، ولذا لا يكاد العبد يخرج من موسم طاعة حتى يدخل في موسم آخر؛ كي يظل على دوام الاتصال بربه - تعالى -.
وفرص الطاعة كثيرة في حياة العبد المسلم منها شهر رمضان، وفيه العشر الأواخر، ومنها العشر الأوائل من ذي الحجة، والثلاثة الأيام من كل شهر، وعاشوراء ...الخ مواسم الطاعات، وسنقف مع موسمين من مواسم الخير هما العشر الأواخر من رمضان، والعشر الأوائل من ذي الحجة؛ كي نتعرف على فضلهما، وفضل العمل والطاعة فيهما:
فضلهما:
أولاً: العشر الأوائل من ذي الحجة:
عشر ذي الحجة من المواسم الفاضلة، وهي أيام شهد لها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنها أفضل أيام الدنيا، وحث على العمل الصالح فيها؛ بل إن لله - تعالى - أقسم بها، وهذا وحده يكفيها شرفاً وفضلاً، إذ العظيم لا يقسم إلا بعظيم، وهذا يستدعي من العبد أن يجتهد فيها، ويكثر من الأعمال الصالحة، ويحسن استقبالها واغتنامها.
وقد ورد في فضلها:
1.  أن الله - تعالى - أقسم بها، وإذا أقسم الله بشيء دلَّ على عظم مكانته وفضله، إذ العظيم لا يقسم إلا بعظيم قال - تعالى -: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ}5، والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة، وهذا ما عليه جمهور المفسرين والخلف، وهو الصحيح.6
2.  اجتماع أكثر العبادات فيها: ذكر ذلك ابن حجر - رحمه الله -: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه وهي: الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره".7
3.  أن فيها يوم الحج الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران، وهو يوم عرفة، ولو لم يكن في عشر ذي الحجة إلا يوم عرفة لكفى لما له من فضل عظيم فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ))8.
4.  أنها الأيام المعلومات التي ذكرها الله - تعالى - بقوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}9، قال الإمام القرطبي: "ولا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى، وهى أيام التشريق، وأن هذه الثلاثة الأسماء واقعة عليها وهي أيام رمى الجمار، وهى واقعة على الثلاثة الأيام التي يتعجل الحاج منها في يومين بعد يوم النحر، فقف على ذلك"، وروى نافع عن ابن عمر: "أن الأيام المعدودات والأيام المعلومات يجمعها أربعة أيام: يوم النحر وثلاثة أيام بعده، فيوم النحر معلوم غير معدود، واليومان بعده معلومان معدودان، واليوم الرابع معدود لا معلوم، وهذا مذهب مالك وغيره"، وإنما كان كذلك لأن الأول ليس من الأيام التي تختص بمنى في قوله - سبحانه وتعالى -: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}، ولا من التي عيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((أيام منى ثلاثة)) فكان معلوماً، لأن الله - تعالى - قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}، ولا خلاف أن المراد به النحر، وكان النحر في اليوم الأول وهو يوم الأضحى والثاني والثالث، ولم يكن في الرابع نحر بإجماع من علمائنا، فكان الرابع غير مراد في قوله - تعالى -: {مَّعْلُومَاتٍ} لأنه لا ينحر فيه، وكان مما يرمى فيه، فصار معدوداً لأجل الرمي، غير معلوم لعدم النحر فيه.10
5.  أن فيها يوم النحر، وهو أفضل أيام السنة عند بعض العلماء فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ))11.
6.  أن العمل فيها أعظم في الأجر من الأيام الأخرى فقد جاء عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ))، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ))12.
7.  شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها بأنها أفضل أيام الدنيا فعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل أيام الدنيا أيام العشر - يعني عشر ذي الحجة -، قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفر وجهه بالتراب))13
ومن خلال ما سبق يتبين لنا فضل العشر من ذي الحجة، وفضل العمل فيها على غيرها من الأيام، وأن هذه الأيام موسم نعمة وفضل ومنَّة من الله على عباده، وفرصة عظيمة يجب على كل عاقل لبيب اغتنامها، وأن يكثر من أوجه الخير وأنواع الطاعات، وهناك إلى جانب هذا كله أعمال يستحب على المرء أن يقوم بها منها: أداء مناسك الحج والعمرة، والصيام، وخاصة صيام يوم عرفة فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ))14، ويستحب فيها أيضاً كثرة الصلاة، والتكبير والتحميد، والتهليل والذكر، والصدقة وقراءة القرآن، والاستغفار وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...إلخ الأعمال الصالحة وأبواب البر.
ثانياً: العشر الأواخر من رمضان:
لا شك أن للعشر الأواخر من رمضان فضل عظيم، وميزة كبيرة، يظهر ذلك جلياً من خلال تتبع حال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكيف أنه كان - عليه الصلاة والسلام - يجتهد في العشر الأواخر من رمضان، ما لا يجتهد في غيرها، فقد كان يعتكف فيها، ويتحرى ليلة القدر خلالها.
وقد روت عائشة - رضي الله عنها - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد مئزره"15.
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قراءة القرآن في هذه الليالي فعن عائشة - رضي الله عنها - أيضاً قالت: "لا أعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى الصباح، ولا صام شهراً كاملاً قط غير رمضان".16.
وفعله - صلى الله عليه وسلم - هذا يدل على اهتمامه بطاعة ربه، ومبادرته الأوقات، واغتنامه الأزمنة الفاضلة؛ فينبغي علينا الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم -، والسير على نهجه.
وقد ورد في فضل ليلة القدر التي تكون في هذه العشر:
1.  نزول القرآن فيها: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}17.
2.    أنها خير من ألف شهر: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.
3.    وهي ليلة مباركة {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}.
4.    وفيها يقدّر مقادير الخلائق: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}.
5.  وفيها مغفرة الذنوب فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه18)).
6.  قال الإمام القرطبي في فضلها: "وحسبك قوله - تعالى -: {لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} وقوله: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا}، وفى الصحيحين: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه19))"20.
7.  أن الملائكة تنزل فيها والروح "أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنـزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنـزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحِلَق الذِّكْر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيماً له"، والروح هو جبريل - عليه السلام - وقد خصَّه بالذكر لشرفه21.
8.    أن الله - تعالى - وصف تلك الليلة بأنها سلام من أولها إلى آخرها: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.
وهناك نصوص تبين لنا فضل العشر الأواخر من رمضان، وفضل العمل فيها على غيرها من الليالي، ومن هذه النصوص:
·   َعنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ22".
·   إخفاء الله - عز وجل - ليلة القدر عن الناس كي يتحروها في العشر كلها، وفي الأوتار منها، فقد جاء عن عائشة - رضي الله عنها - َقَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَيَقُولُ: ((تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ))23.
فعلى المؤمن العاقل استغلال هذه المنح الربانية التي وهبنا الله - عز وجل - لعباده؛ كي يرجعوا إليه، ويعتقوا أنفسهم من النار.
أيهما أفضل العشر الأوائل من ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية - رَحِمَهُ اللَّه - عن: "عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟
فَأَجَابَ: أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمُ: وَإِذَا تَأَمَّلَ الْفَاضِلُ اللَّبِيبُ هَذَا الْجَوَابَ وَجَدَهُ شَافِيًا كَافِيًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ فِيهَا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَفِيهَا: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَأَمَّا لَيَالِي عَشْرِ رَمَضَانَ فَهِيَ لَيَالِي الْإِحْيَاءِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْيِيهَا كُلَّهَا، وَفِيهَا لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فَمَنْ أَجَابَ بِغَيْرِ هَذَا التَّفْصِيلِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُدْلِيَ بِحُجَّةٍ صَحِيحَةٍ"24.
ويقول الإمام ابن رجب - رحمه الله تعالى - معلقاً على هذا الحديث: "فيدخل في ذلك تفضيل العمل في عشر ذي الحجة على العمل في جميع أعشار الشهور كلها، ومن ذلك عشر رمضان، لكن فرائض عشر ذي الحجة أفضل من فرائض سائر الأعشار، ونوافله أفضل من نوافلها، فأما نوافل العشر فليست أفضل من فرائض غيره، وحينئذ؛ فصيام عشر رمضان أفضل من صيام عشر ذي الحجة؛ لأن الفرض أفضل من النفل، وأما نوافل عشر ذي الحجة فأفضل من نوافل عشر رمضان، وكذلك فرائض عشر ذي الحجة تضاعف أكثر من مضاعفة فرائض غيره"25.
وسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية - رحمه الله - أَيُّهمَا أَفْضَلُ: يَوْمُ عَرَفَةَ أَوْ الْجُمْعَةِ، أَوْ الْفِطَرِ أَوْ النَّحْرِ؟
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ يَوْمُ الْجُمْعَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَأَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: ((أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ)) لِأَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: {يَوْمُ النَّحْرِ هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ}، وَفِيهِ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا لَا يُعْمَلُ فِي غَيْرِهِ: كَالْوُقُوفِ بمزدلفة، وَرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا، وَالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ، وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَإِنَّ فِعْلَ هَذِهِ فِيهِ أَفْضَلُ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ"26.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله أولاً وآخراً.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق