الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي
الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله
وأصحابه أجمعين. أما بعد:
فإن الإنسان العاقل يتطلع ويتشوق إلى معرفة صفات المتقين أصحاب الرتب العلَّيةِ،
والدرجات السّنيِّة، كي يتصف بصفاتهم، ويتخلق بأخلاقهم، وتعلوا همته في طلبها، ،
ويبذل نفائس الأنفس في خطبتها وقرانها، ويعمل جاهداً على الاتصاف بها وإذا كان كذلك
فإنه لا شيء يحجبه أمامها, وإنما عليه أن يتعرف عليها.
إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه تكن مثل ما يعجبك
فليس على الجود والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك
فالصفات التي اتصف بها المتقون كثيرة وعظيمة، نذكر منها ما يلي:
1-
أنهم يؤمنون بالغيب إيماناً جازماً
:
قال الله-تعالى-:
{
الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً
لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} البقرة:1-3.
2-
أنهم يعفون ويصفحون:
قال الله-تعالى-: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى} البقرة: من الآية237، وقد قال-عزوجل-: {
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}
الشورى:40،
فأخبر الله-عزوجل- أن من اتصف بهذه الصفة فأجره في ذلك على الله-عزوجل-كما رغبهم
الله-عزوجل-في مغفرته إذا فعلوا ذلك فقال- سبحانه-: {وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ} النور: من الآية22، وقال في وصف المتقين:{
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آل عمران: من الآية134.
3-
أنهم لا يقارفون الكبائر، ولا يصرون على الصغائر:
بل كلما وقعوا في صغيرة رجعوا إلى الله بالتوبة والاستغفار والعمل الصالح عملاً
بقول النبي-صلى الله عليه وسلم-: "أتبع السيئة الحسنة
تمحها" ودل على هذه الصفة قوله-عزوجل-:
{
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ
مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} لأعراف: 201، قال
ابن كثير-رحمه الله-: " يخبر تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر
وتركوا ما عنه زجر، أنهم إذا مسهم –أي : أصابهم- طيف وقرأ الآخرون طائف، وقد جاء
فيه حديث وهما قراءتان مشهورتان فقيل: بمعنى واحد، وقيل: بينهما فرق، ومنهم من فسر
ذلك بالغضب، ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصدع ونحوه، ومنهم من فسره بالهمِّ
بالذنب، ومنهم من فسره بإصابة الذنب، وقوله:"تذكروا"
أي : عقاب الله وجزيل ثوابه ووعده ووعيده فتابوا وأنابوا ورجعوا إليه من قريب"فإذا
هم مبصرون" أي: قد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه"1
.
4-
أنهم يتحرون الصدق فهم أصد الناس:
قال الله-تعالى-: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ
وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} الزمر:33. قيل الذي جاء
بالصدق هو محمد-صلى الله عليه وسلم-، وقيل: جبريل-عليه السلام-، وقال مجاهد: أصحاب
القرآن المؤمنون: يجيئون يوم القيامة فيقولون: هذا ما أعطيتمونا فعملنا بما
أمرتمونا. قال ابن كثير: وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمنين
يقولون الحق ويعلمون به، والرسول-صلى الله عليه وسلم-أولى الناس بالدخول في هذه
الآية على هذا التفسير، فإنه جاء بالصدق وصدق المرسلين، وآمن بما أنزل إليه من ربه
والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله2
.
وقال تعالى:
{
أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ} البقرة: من الآية177. قال القاسمي:" أولئك الذين صدقوا" في
إيمانهم لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فلم تغيرهم الأحوال, ولم
تزلزلهم الأهوال، وفيه إشعار بأن من لم يفعل أفعالهم لم يصدق في دعواه الإيمان"
وأولئك هم المتقون" عن الكفر وسائر الرذائل، وتكرير الإشارة لزيادة تنويه بشأنهم،
وتوسيط الضمير للإشارة لانحصار التقوى فيهم3.
5-
أنهم يعظمون شعائر الله:
قال الله تعالى: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ
اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} الحج:32. فالمتقون يعظمون طاعة
الله وأمره فيدفعهم ذلك إلى طاعته، ويعظمون كذلك ما نهى الله عنه فيدفعهم ذلك عن
معصيته، وعكس ذلك الاستهانة بالأوامر فلا يؤديها، وبالنواهي فيقع فيها نسأل الله
السلامة4.
6-
أنهم يتحرون العدل ويحكمون به ولا يحملهم بغض أحد على تركه:
قال الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} المائدة:8.
7-
أنهم يتبعون سبيل الصادقين من الأنبياء والمرسلين وصحابة سيد الأولين والأخرين:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}التوبة:119. قال القرطبي:
"هذا الأمر بالكون مع أهل الصدق حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن
منازل المنافقين، واختلف في المراد هنا بالمؤمنين الصادقين على أقوال فقيل هو خطاب
لمن آمن من أهل الكتاب، قيل "وكونوا مع الصادقين" أي مع الذين خرجوا مع النبي-صلى
الله عليه وسلم- لا مع المنافقين، أي كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم،وقيل هم
المهاجرون لقول أبي بكر يوم السقيفة: إن الله سمانا الصادقين فقال: {لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الحشر: 8. ثم سماكم بالمفلحين فقال: {
وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ
قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ
حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
الحشر:9، وقيل هم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم5.
ولا شك أن من صفات المتقين أنهم ينتهجون منهج الصحابة- رضي الله عنهم-، لأنهم أولى
الناس بهذه الصفة التي أمرنا الله أن نكون مع أهلها، فقد شهد الله- عزوجل-لهم
بالصدق، وشهد لهم رسوله-صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد أن يلمزهم بشئ، أو
يتهمهم بما برأهم الله-عزوجل-ورسوله-صلى الله عليه وسلم- فالصحابة كلهم عدول، وظهرت
فيهم من علامات الصدق والإيمان واليقين ما يجعل العاقل يقطع بتعديلهم، فمن تقوى
الله عزوجل موالاتهم ومحبتهم ونصرتهم والاحتجاج بإجماعهم، وفهم الكتاب والسنة على
منهجهم وطريقتهم ، وبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم6.
8-
أنهم يَدَعون ما لا بأس به حذراً مما به بأس ويتقون الشبهات:
فعن بن عمر- رضي الله عنهما- قال:" لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في
الصدر"7
قال الحافظ: المراد بالتقوى وقاية النفس عن الشرك والأعمال السئية والمواظبة
على الأعمال الصالحة، وقوله:" حاك" أي تردد ففيه إشارة إلى أن بعض المؤمنين بلغ كنه
الإيمان وحقيقته، وبعضهم لم يبلغ8.
وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال:" دع ما يريبك
إلى مالا يريبك"9.
ومعنى ذلك أنهم يتركون كل ما يشكون في حله فإن الحلال المحض لا يحصل للمؤمن في قلبه
شك، وإنما تسكن إليه النفس، ويشبه هذا الحديث كذلك قوله-صلى الله عليه وسلم-:" إن
الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمن
اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام10.
فالمتقون يتورعون عن الشبهات وعما يرتابون فيه مما ليس حلالاً بيناً، وذلك أدعى أن
يتورعوا عن الحرام البين، ومن اجترأ على الشبهة اجترأ كذلك على الحرام، ففي رواية
الصحيحين:" فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما
إستبان أترك": يعني: أن من ترك الإثم مع اشتباهها عليه فهو أولى بتركه إذا
استبان أنه إثم11.
قال ابن رجب-رحمه الله-: وههنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن التدقيق في التوقف عن
الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها وتشابهت أعماله في التقوى والورع، فأما
من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة, ثم يريد أن يتورع عن شئ من دقائق الشبهة فإنه
لا يحتمل له ذلك بل ينكر عليه، كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل
العراق: يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين، وسمعت رسول الله-صلى الله عليه
وسلم-:" هما ريحانتاي من الدنيا"12.
اللهم اجعلنا من المتقين،
وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد
والحمد لله رب العالمين،،،
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق