قاعدة في الصبر
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،،،
جعل الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بكل منزلة خيراً منه، فهم دائماً في نعمة من ربهم، أصابهم ما يحبون، أو ما يكرهون، وجعل أقضيته وأقداره التي يقضيها لهم ويقدرها عليهم متاجر يربحون بها عليه، وطرقاً يصلون منها إليه، كما ثبت في الصحيح عن إمامهم ومتبوعهم الذين إذا دعى يوم القيامة كل أناس بإمامهم دعوا به صلوات الله وسلامه عليه أنه قال : " عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر ! فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له". رواه مسلم
فهذا الحديث يعم جميع أقضيته لعبده المؤمن وأنها خير له إذا صبر على مكروهها وشكر لمحبوبها، بل هذا داخل في مسمى الإيمان كما قال بعض السلف : " الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر" ، لقوله تعالى { إنَّ في ذلك لآيات لكل صبارٍ شكورٍ } إبراهيم 5 ، وإذا اعتبر العبد الدين كله رآه يرجع بجملته إلى الصبر والشكر، وذلك لأن الصبر ثلاثة أقسام :
القسم الأول
صبر على الطاعة حتى يفعلها، فإن العبد لايكاد يفعل المأمور به إلا بعد صبر ومصابرة ومجاهدة لعدوه الباطن والظاهر ، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤه للمأمورات و فعله للمستحبات.
القسم الثاني
صبر عن المنهي عنه حتى لا يفعله، فإن النفس ودواعيها وتزيين الشيطان، وقرناء السوء؛ تأمره بالمعصية وتجرؤه عليها، فبحسب قوة صبره يكون تركه لها قال بعض السلف : " أعمال البر يفعلها البر والفاجر ولا يقدر على ترك المعاصي إلا صديق"، وهذا يقوى ويضعف بحسب قوة محبة العبد لله وضعفها، بل هذا يجده أحدنا في الشاهد كما قال الشاعر يخاطب محبوباً له ناله ببعض ما يكره :
لإن سائني أن نلتني بمساءة *** لقد سرني أني خطرت ببالك
القسم الثالث
الصبر على ما يصيبه بغير اختياره من المصائب وهي نوعان:
> النوع الأول : لا اختيار للخلق فيه، كالأمراض وغيرها من المصائب السماوية، فهذه يسهل الصبر فيها، لأن العبد يشهد فيها قضاء الله وقدره، وإنه لا مدخل للناس فيها، فيصبر إما اضطراراً، وإما اختيارا، فإن فتح الله على قلبه باب الفكرة في فوائدها وما في حشوها من النعم والألطاف انتقل من الصبر عليها إلى الشكر لها والرضا بها، فانقلبت حينئذ في حقه نعمة فلا يزال هجيري قلبه ولسانه « رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك».
> النوع الثاني : أن يحصل له بفعل الناس في ماله أو عرضه أو نفسه فهذا النوع يصعب الصبر عليه جداً، لأن النفس تست! شعر المؤذي لها، وهي تكره الغلبة، فتطلب الانتقام، فلا يصبر على هذا النوع إلا الأنبياء والصديقون، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم إذا أوذي يقول «يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» وأخبر عن نبي من الأنبياء أنه ضربه قومه فجعل يقول : « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه جرى له هذا مع قومه، فجعل يقول مثل ذلك.
فجمع في هذا ثلاثة أمور: العفو عنهم، والاستغفار لهم، والاعتذار عنهم بأنهم لا يعلمون، وهذا النوع من الصبر أثمره النصر والعز والسرور والأمن والقوة في ذات الله، وزيادة محبة الله ومحبة الناس له وزيادة العلم، ولهذا قال الله تعالى : {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} (السجدة 24) فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين؛ فإن انضاف الى هذا الصبر قوة اليقين والإيمان ترقى العبد في درجات السعادة بفضل الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ولهذا قال الله تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم «34» وما يلقاها} يعني الأعمال الصالحة مثل العفو والصفح { إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حـظ عظيم }فصلت 34-35 ، نصيب وافر وهي الجنة، ويعين العبد على هذا الصبر عدة أشياء:
أحدهـا
أن يشهد أن الله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد حركاتهم وسكناتهم وإراداتهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يتحرك في العالم العلوي والسفلي ذرة إلا بإذنه ومشيئته، فانظر إلى الذي سلطهم عليك، ولا تنظر إلى فعلهم بك؛ تستريح من الهم والغم والحزن.
الثانــي
أن يشهد ذنوبه ، وأن الله إنما سلطهم عليه بذنبه، كما قال تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} (الشورى 30) فإذا شهد العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه، اشتغل بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطتهم عليه، عن ذمهم ولومهم والوقيعة فيهم، وإذا رأيت العبد يقع في الناس إذا آذوه ولا يرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار فاعلم أن مصيبته مصيبة حقيقية، وإذا تاب واستغفر وقال : هذا بذنوبي صارت في حقه نعمه.
قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه كلمة من جواهر الكلام: « لايرجونّ عبد إلا ربه ، ولا يخافنّ عبد إلا ذنبه » وروى عنه وعن غيره : ( ما نزل بلاء إلا بذنب ، ولا رفع إلا بتوبة ).
الثـالـث
أن يشهد العبد حسن الثواب الذي وعده الله لمن عفى وصبر ، كما قال تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الـظالمين}، ولما كان الناس عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام : ظالم يأخذ فوق حقه؛ ومقتصد يأخذ بقدر حقه؛ ومحسن يعفو ويترك حقه. ذكر الأقسام الثلاثة في هذه الآية فأولها للمقتصدين، ووسطها للسابقين، وآخرها للظالمين، ويشهد نداء المنادي يوم القيامة { ألا ليقم من وجب أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفى وأصلح } وإذا شهد مع ذلك فوت الأجر بالانتقام والاستيفاء سهل عليه الصبر والعفو.
الرابع
أن يشهد أنه إذا عفى وأحسن أورثه ذلك من سلامة القلب لإخوانه، ونقائه من الغش، والغل، وطلب الانتقام، وإرادة الشر، وحصل له من حلاوة العفو ما يزيد لذته ومنفعته عاجلاً وآجلا على المنفعة الحاصلة له بالإنتقام أضعافاً مضاعفة، ويدخل في قوله تعالى { والله يحب المحسنين} آل عمران ، فيصير محبوبا لله، ويصير حاله حال من أخذ منه دراهم فعوض عنها الوفا من الدنانير، فحينئذ يفرح بما من الله عليه أعظم ما يكون فرحا.
الخامس
أن يعلم أنه ما انتقم أحد قط لنفسه إلا أورثه ذلك ذلا وجده في نفسه فإذا عفى أعزه الله، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام حيث يقول : « ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا» رواه مسلم فالعز الحاصل له بالعفو أحب إليه وأنفع له من العز الحاصل له بالانتقام، فإن هذا عز في الظاهر وهو يورث في الباطن ذلا؛ والعفو ذل في الظاهر وهو يورث العز باطناً وظاهراً.
السادس
وهي من أعظم الفوائد- أن يشهد أن الجزاء من جنس العمل وأنه نفسه ظالم مذنب، وأن من عفى عن الناس عفى الله عنه، ومن غفر غفر الله له، فإذا شهد أن عفوه عنهم وصفحه وإحسانه مع إساءتهم إليه، سبب لأن يجزيه الله كذلك من جنس عمله فيعفو عنه ويصفح ويحسن إليه على ذنوبه، سهل عليه عفوه وصبره ويكفي العاقل هذه الفائدة.
السابع
أن يعلم أنه إذا اشتغلت نفسه بالانتقام وطلب المقابلة ضاع عليه زمانه وتفرق عليه قلبه، وفاته من مصالحه، ما لا يمكن استدراكه، ولعل هذا يكون أعظم عليه من المصيبة التي نالته من جهتهم، فإذا عفى وصفح فرغ قلبه وجسمه لمصالحه التي هي أهم عنده من الانتقام.
الثامـن
أن انتقامه واستيفائه وانتصاره لنفسه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط، فإذا كان هذا خير خلق الله وأكرمهم على الله لم يكن ينتقم لنفسه مع أن أذاه أذى لله ويتعلق به حقوق الدين، ونفسه أشرف الأنفس، وأزكاها، وأبرها وأبعدها من كل خلق مذموم، وأحقها بكل خلق جميل، ومع هذا فلم يكن ينتقم لها، فكيف ينتقم أحدنا لنفسه التي هو أعلم بها وبما فيها من العيوب والشرور بل الرجل العارف لا تساوي نفسه عنده أن ينتقم لها، ولا قدر لها عنده يوجب عليه انتصاره لها.
التـاسـع
إن أوذي على ما فعله لله أو على ما أمره به من طاعته ونهى عنه من معصيته وجب عليه الصبر ولم يكن له الانتقام، فإنه قد أوذى في الله، فأجره على الله، ولهذا لما كان المجاهدون في سبيل الله ذهبت دماؤهم وأموالهم في الله لم تكن مضمونة، فإن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، فالثمن على الله لا على الخلق، فمن طلب الثمن منهم لم يكن له على الله ثمن، فإنه من كان في الله نفقه كان على الله خلفه.
وإن كان قد أوذي على معصية فليرجع باللوم على نفسه، ويكون في لومه لها شغل عن لومه لمن آذاه.
وإن كان قد أوذي على حظ، فليوطن نفسه على الصبر، فإن نيل الحظوظ دونه أمرٌ أمرُّ من الصبر، فمن لم يصبر على حر الهواجر، والامطار والثلوج، ومشقة الاسفار، ولصوص الطريق، وإلا فلا حاجة له في المتاجر وهذا أمر معلوم عند الناس أن من صدق في طلب شيء من الأشياء بذل من الصبر في تحصيله بقدر صدقة في طلبه.
العاشـر
أن يشهد معية الله معه إذا صبر، ومحبة الله له ورضاه، ومن كان الله معه دفع عنه من أنواع الأذى والمضرات ما لايدفع عنه أحد من خلقه، قال الله تعالى : { واصبروا إن الله مع الصابرين} الانفال 46 وقال : { والله يحب الصابرين} آل عمران
الحادي عشر
أن يشهد أن الصبر نصف الإيمان، فلا يبدل من إيمانه جزء في نصرة نفسه، فإن صبر فقد أحرز إيمانه وصانه من النقص والله تعالى يدافع عن الذين آمنوا.
الثاني عشر
أن يشهد أن صبره حكم منه على نفسه وقهر لها، وغلبة لها، فمتى كانت النفس مقهورة معه مغلوبة، لم تطمع في استرقاقة، وأسره وإلقائه في المهالك، ومتى كان مطيعاً لها سامعاً منها مقهوراً معها لم تزل به حتى تهلكه، أو تتداركه رحمة من ربه. فلو لم يكن في الصبر إلا قهره لنفسه ولشيطانه؛ فحينئذ يظهر سلطان القلب ويثبت جنوده، فيفرح ويقوى ويطرد العدو عنه.
الثالث عشر
أن يعلم أنه إن صبر فالله ناصره ولابد، فإن الله وكيل من صبر وأحال ظالمه عليه، ومن انتصر بنفسه لنفسه وكله الله إلى نفسه فكان هو الناصر لها، فأين من ناصر الله خير الناصرين، إلى من ناصره نفسه أعجز الناصرين وأضعفه.
الرابع عشر
أن صبره على من آذاه واحتماله له يوجب رجوع خصمه عن ظلمه وندامته واعتذاره، ولوم الناس له فيعود بعد إيذائه له مستحيا منه، نادماً على ما فعله؛ بل يصير موالياً له وهذا معنى قوله : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم «34» وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}. فصلت
الخامس عشر
ربما كان انتقامه سبباً لزيادة شر خصمه وقوة نفسه وفكرته في أنواع الأذى التي يوصلها إليه كما هو المشاهد، فإذا صبر وعفى أمن من هذا الضرر، والعاقل لا يختار أعظم الضررين بدفع أدناهما، وكم قد جلب الانتقام والمقابلة من شر عجز صاحبه عن دفعه، وكم قد ذهبت به نفوس ورياسات وأموال وممالك لو عفى المظلوم لبقيت عليه.
السادس عشر
أن من اعتاد الانتقام ولم يصبر ، لابد أن يقع في الظلم، فإن النفس لا تقتصر على قدر العدل الواجب لها. لا عملاً، ولا إرادة وربما عجزت عن الاقتصار على قدر الحق، فإن الغضب يخرج بصاحبه إلى حد لا يعقل ما يقول وما يفعل، فبين هو مظلوم ينتظر النصر والعز إذا انقلب ظالماً ينتـظر المقت والعقوبة.
السابع عشر
أن هذه المظلمة التي ظلمها هي سبب، إما لتكفير سيئة، أو رفع درجة، فإذا انتقم ولم يصبر لم تكن مكفرة لسيئته ولا رافعة لدرجته.
الثامن عشر
أن عفوه وصبره من أكبر الجند له على خصمه، فإن من صبر وعفى كان صبره وعفوه موجبا لذل عدوه، وخوفه وخشيته منه، ومن الناس، فإن الناس لا يسكتون عن خصمه وإن سكت هو، فإذا انتقم زال ذلك كله ولهذا تجد كثيراً من الناس إذا شتم غيره أو آذاه يحب أن يستوفي منه، فإذا قابله استراح وألقى عنه ثقلاً كان يجده.
التاسع عشر
أنه إذا عفى عن خصمه، استشعرت نفس خصمه أنه فوقه، وأنه قد ربح عليه فلا يزال يرى نفسه دونه وكفى بهذا فضلاً وشرفاً للعفو.
العشرون
أنه إذا عفى وصفح كانت هذه الحسنة، فتولد له حسنة أخرى، وتلك الأخرى تولد أخرى، وهلم جرا، فلا تزال حسناته في مزيد، فإن من ثواب الحسنة الحسنة، كما أن من عقاب السيئة السيئة بعدها، وربما كان هذا سبباً لنجاته وسعادته الأبدية، فإذا انتقم وانتصر زال ذلك.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق