من أجمل ماقرأت ... شهيد العيد
للشيخ علي الطنطاوي من كتابه (صور و خواطر ص67 ) نشرت سنة 1946 م
كلفتني محطة الشرق الأدنى أن أكتب قصة لتذاع عني أول يوم في عيد الأضحى ، و هذا هو العيد قد حلَّ حلَّت عليكم فيه البركات و الخيرات ، و لكن القصة لم تكتب ... إن لها قصة يا سادة فاسمعوا قصتها ...
أنا رجلٌ من طبعه التأخير و التسويف ، أؤخر الأمر ، ما دام في الأجل فسحة أُرجئه إلى آخر لحظة منه ، ثم أقوم كالمجنون أنط قافزا مثل الأرنب الذي زعم (أخونا...) لافونتين أنه نام حتى سبقته السلحفاة ، و إن لم أكن قد رأيت في عمري سلحفاة تسبق أرنبا ... فلما ورد عليَّ كتاب المحطة نظرت فإذا بيني و بين موعد الإذاعة أمد طويل فاطمأننت و نمت ، حتى إذا كانت ليلة العيد ، و لم يبق أمامي إلا ساعات معدودة أكتب فيها القصة و ألحق بها البريد الجوي ، أخذت قلمي و صحيفتي لأكتب فسدَّ عليَّ أبواب القول منافذه و كواه ...و عدت مرتجّا عليّ محبوسا لساني كأني ما مارست الكتابة قط ، و كذلك نفس الأديب يا سادة تتفتح تفتُّح الينبوع الدفاق ، ثم تشح شحَّ الصخرة الصماء ما تبض بقطرة ماء ، و لكن الناس لا يصدقون ذلك : إنهم يحسبوعن الكاتب يخرج المقال من نفسه كما يخرج التاجر البضاعة من دكانه ، و لا يدرون أن الكلام يجيء أحيانا حتى لا يقدر الأديب على ردِّه ، و يعزب حينا حتى لا يلقاه ، و إنه يعلو و يصفوا و ينزل و يتعكر ، و ما عجزت الليلة عيّا و لا فهاهة ، فأنا أكتب في الصحف من عشرين سنة ، و لكن الكتابة بالأجر بيع و شراء ، و لكل مبيع ثمن ، و أنا أحب أن أنتصف و أنصف الناس من نفسي ، لذلك رأيتني كلما سقطت على موضوع وزنته فوجدته لا يساوي الثمن الذي تدفعه لي المحطة فتركته و فتشت عن أغلى ، و كلما خطرت لي فكرة طمحت إلى أعلى ، حتى كاد يمضي الوقت و لم أصنع شيئا ، و نزل بي ما نزل ما نزل بالأستاذ توفيق الحكيم لما كلفوه أن يضع حوارا للفيلم و جعلوا له جعلا ضخما ، فحصر فيه فكره ، و حشد قواه ، و فرَّ لأجله من داره . ثم انتهى به الأمر أن ألََّف كتاب (الحمار) و لم يضع الحوار
عند ذلك أيست و لبست ثيابي و هربت إلى الأسواق .
جلت في الأسواق ، و أسواق دمشق ليلة العيد كأنها المحشر ، قد أوقدت فيها المصابيح ، و فتحت المخازن ، و انتشر الباعة ، و تدفق عليها أهل البلد و الفلاحون ، بالأزياء المختلفة و اللغات المتباينات ، و كل بائع ينادي برفع صوته ، و كل مشتر يصيح ، و كل مجتاز يتكلم ، و البضائع معروضات ، من كل مأكول و ملبوس و مفروش و منظور و مشموم ، و كل يريد أن يعدَّ الليلة عدته للعيد فيشتري فيها طعامه و لباسه ... و كنت أسير في هذا الزحام شارد الذهن ، نازح الفكر ، أعمل عقلي في هذه القصة ...التي وعدت بها المحطة ، فأعلنت عنها و بشرت بها ، حتى وصلت إلى (باب المصلى) فإذا أنا بحشد عظيم من الناس قد احتشد حيال دكان ، فدفعني الفضول إلى معرفة الخبر ، فأقبلت أدفع الناس بكفي ، و أشق طريقي بيديَّ كلتيهما و أطأ أعقاب الناس و أقدامهم ، و أصغي إلى هذا الفيض العجيب من ... النثر الفني ... الذي جادت به قرائحهم ، فتدفق عليَّ من ألسنتهم ، حتى بلغت المشهد و نظرت ...
للشيخ علي الطنطاوي من كتابه (صور و خواطر ص67 ) نشرت سنة 1946 م
كلفتني محطة الشرق الأدنى أن أكتب قصة لتذاع عني أول يوم في عيد الأضحى ، و هذا هو العيد قد حلَّ حلَّت عليكم فيه البركات و الخيرات ، و لكن القصة لم تكتب ... إن لها قصة يا سادة فاسمعوا قصتها ...
أنا رجلٌ من طبعه التأخير و التسويف ، أؤخر الأمر ، ما دام في الأجل فسحة أُرجئه إلى آخر لحظة منه ، ثم أقوم كالمجنون أنط قافزا مثل الأرنب الذي زعم (أخونا...) لافونتين أنه نام حتى سبقته السلحفاة ، و إن لم أكن قد رأيت في عمري سلحفاة تسبق أرنبا ... فلما ورد عليَّ كتاب المحطة نظرت فإذا بيني و بين موعد الإذاعة أمد طويل فاطمأننت و نمت ، حتى إذا كانت ليلة العيد ، و لم يبق أمامي إلا ساعات معدودة أكتب فيها القصة و ألحق بها البريد الجوي ، أخذت قلمي و صحيفتي لأكتب فسدَّ عليَّ أبواب القول منافذه و كواه ...و عدت مرتجّا عليّ محبوسا لساني كأني ما مارست الكتابة قط ، و كذلك نفس الأديب يا سادة تتفتح تفتُّح الينبوع الدفاق ، ثم تشح شحَّ الصخرة الصماء ما تبض بقطرة ماء ، و لكن الناس لا يصدقون ذلك : إنهم يحسبوعن الكاتب يخرج المقال من نفسه كما يخرج التاجر البضاعة من دكانه ، و لا يدرون أن الكلام يجيء أحيانا حتى لا يقدر الأديب على ردِّه ، و يعزب حينا حتى لا يلقاه ، و إنه يعلو و يصفوا و ينزل و يتعكر ، و ما عجزت الليلة عيّا و لا فهاهة ، فأنا أكتب في الصحف من عشرين سنة ، و لكن الكتابة بالأجر بيع و شراء ، و لكل مبيع ثمن ، و أنا أحب أن أنتصف و أنصف الناس من نفسي ، لذلك رأيتني كلما سقطت على موضوع وزنته فوجدته لا يساوي الثمن الذي تدفعه لي المحطة فتركته و فتشت عن أغلى ، و كلما خطرت لي فكرة طمحت إلى أعلى ، حتى كاد يمضي الوقت و لم أصنع شيئا ، و نزل بي ما نزل ما نزل بالأستاذ توفيق الحكيم لما كلفوه أن يضع حوارا للفيلم و جعلوا له جعلا ضخما ، فحصر فيه فكره ، و حشد قواه ، و فرَّ لأجله من داره . ثم انتهى به الأمر أن ألََّف كتاب (الحمار) و لم يضع الحوار
عند ذلك أيست و لبست ثيابي و هربت إلى الأسواق .
جلت في الأسواق ، و أسواق دمشق ليلة العيد كأنها المحشر ، قد أوقدت فيها المصابيح ، و فتحت المخازن ، و انتشر الباعة ، و تدفق عليها أهل البلد و الفلاحون ، بالأزياء المختلفة و اللغات المتباينات ، و كل بائع ينادي برفع صوته ، و كل مشتر يصيح ، و كل مجتاز يتكلم ، و البضائع معروضات ، من كل مأكول و ملبوس و مفروش و منظور و مشموم ، و كل يريد أن يعدَّ الليلة عدته للعيد فيشتري فيها طعامه و لباسه ... و كنت أسير في هذا الزحام شارد الذهن ، نازح الفكر ، أعمل عقلي في هذه القصة ...التي وعدت بها المحطة ، فأعلنت عنها و بشرت بها ، حتى وصلت إلى (باب المصلى) فإذا أنا بحشد عظيم من الناس قد احتشد حيال دكان ، فدفعني الفضول إلى معرفة الخبر ، فأقبلت أدفع الناس بكفي ، و أشق طريقي بيديَّ كلتيهما و أطأ أعقاب الناس و أقدامهم ، و أصغي إلى هذا الفيض العجيب من ... النثر الفني ... الذي جادت به قرائحهم ، فتدفق عليَّ من ألسنتهم ، حتى بلغت المشهد و نظرت ...
نظرت ، فرأيت اثنين يختصمان و يعتركان ، أما أحدهما فكان مسكينا قميئا أعزل عاجزا ، و أما الآخر فكان ضخما طُوالا كالح الوجه ، مفتول العضل ، وسخ الثوب ، قد حمل سكينا في يده طويلة النصل ، حديدية الشفرة ، و هجم بها على صاحبه و الناس ينظرون و لا ينكرون ، و صاحبه و الناس ينظرون و لا ينكرون ، يطلب الغوث و لا يغثه أحد ، و يبتغي المهرب فيسد عليه الناس طريق الهرب ...
و إني لأفكر ماذا أصنع ...و إذا بالخبيث العاتي يذبحه و الله أمامنا ذبحا و يتركه يتخبط بدمه ، و يوليه ظهره و يمضي إلى دكانه متمهلا ، فيعالج فيها شأنه على عادته ، كأنه لم يرتكب جرما و لم يأت الأمر النكر جهارا
و كدت أهجم عليه ، و أسلمه إلى الشُّرط . ثم ذكرت أن الشجاعة في مثل هذا الموطن تهوُّر و حماقة ، و أن المجرم بيده السكين . لا يمنعه شيء أن يجأ بها من يريده بشرّ ، و طمعت أن يتحرك أحد الواقفين فيقدم عليه فأتبعه و أشد أزره ، فلا و الله ما تحرك أحد منهم ، و لا جَرُؤ على ذلك، بل لقد تكلم واحد منهم ، فلما رفع رأسه و نظر إليه رأيته يجزع منه و يفزع ، و يقول له بصوت مضطرب متلجلج: ((الله يسلِّم يديك))
و حرت ماذا أعمل : أَأُبلغ الشرطة ، أو أدعهم و أمضي إلى داري لا عليَّ و لا لي ؟ ثم رأيت أن خير ما أفعل أن أكتب وصف ما رأيت ، و أبعث به ليذاع و يعرفه الناس .
و هاأنذا أتهم الرجل بالقتل ، و أدعو الحكومة إلى القبض عليه حتى يعاقب و يكون عبرة يعتير . و لا يحتسبن أحد أنه فرَّ ، أو أن القصة متخيلة أو مكذوبة ، أو أنها من أساطير الأولين ، أو من أخبار العصور الخوالي ، فالقاتل موجود في دكانه يغدو إليها و يروح إلى بيته ، و القصة صحصحة رأيتها بعيني رأسي و أنا سالم العقل غير مجنون و لا معتوه، متيقظ غير نائم و لا حالم ، صاح غير مخدَّر و لا سكران ، ثم إني رأيتها الليلة البارحة
هذه هي الحادثة الفظيعة التي كتب الله أن تكون هي موضوع قصتي التي فكرت فيها و أطلت التفكير فكيف رآها الناس فلم يحفلوا بها و لم يأبهوا لها ؟ أفسدت الأخلاق ، و ضاعت المروءات حتى لا ننكر الأمر النُّكر ، أم خارت العزائم ، و انخلعت القلوب حتى لا نجرؤ على المجرم الظالم ؟ و هل نامت الحكومة في الشام نومة أهل الكهف حتى ما تدري بالدم يسيل في شارع من أكبر شوارع دمشق ؟
لقد سكت الجميع ، حتى أن أنسباء القتيل قد ناموا عن ناموا عن دمه ، و قعدوا عن الثأر له ، و لم يتقدم أحد منهم شاكيا و لا مدعيا لأن القاتل كما قالوا ، عازم على ذبحهم كلهم إن قدر عليهم ، و ماضيه حافل بمثل هذه الجرائم .
لقد علمت السر بعد يا سادة ...
ذلك أن المسكين كان خروفا من خرفان الضحية ، و أن القاتل كان جزار الحارة ، و أن الناس شاركوه في جرمه ، فأكلوا لحم الذبيح مشويا و مقليا و مطهيا و أكلت معهم ، و نسيت من طيب اللحم هذا المشهد .
هذه سنة الحياة ، يموت المسكين لنستمتع نحن بأكلة طيبة ، فكلوا منه أنتم أيضا هنيئا ، و اشربوا مريئا ، و اشتغلوا بالأكل عن مطالبتي بالقصة .
و كل عام و أنتم بخير .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق